السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ...
- فوائد من قوله تعالى:
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ *
وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ
كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}
عن الحسن البصري أنه تلا هذه الآية:
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}
فقال: هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله
أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله من دعوته.
ومما يدخل في الدعوة إلى الله:
تعليم الجاهلين، ووعظ الغافلين والمعرضين، ومجادلة المبطلين، والأمر بعبادة الله بجميع أنواعها
والحث عليها، وتحسينها بكل وسيلة وطريقة تؤدي إليهما مهما أمكن. والزجر عما نهى الله عنه
وتهجينه وتقبيحه بكل طريقة توجب تركه والابتعاد عنه، ومجادلة أعداء الإسلام بالتي هي أحسن، كما قال تعالى:
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}
ومن الحكمة أن يدعو كل أحد على حسب فَهْمِه وقبولِه وانقيادِه
ومن الحكمة الدعوة بالعلم لا بالجهل، والبداءة بالأهم
وبالأقرب إلى الأذهان، والفهم بما يكون قبوله أتم وبالرفق واللين.
فإنْ انقاد بالحكمة فبها ونعمت، وإلا فينتقل معه إلى الدعوة بالموعظة الحسنة
وهو الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب.
وقوله تعالى: {وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}
أي مع دعوته الخَلقَ إلى الله بادر هو بنفسه إلى امتثال أمر الله بالعمل الصالح
الذي يرضي ربه، وقال -أي : تلفظ- بذلك ابتهاجاً وسرورًا، أنه منهم وتفاخرًا به
مع قصد الثواب، وأنه من السالكين في طريقه.
وهذه المرتبة تمامًا للصديقين الذين عملوا على تكميل أنفسهم وتكميل غيرهم
وحصلوا على الوراثة من الرسل، كما أن من أشر الناس قولاً وفعلاً من كان
من دعاة الضلال السالكين لسبله وبين هاتين المرتبتين المتباينتين اللتين ارتفعت
إحداهما إلى أعلى عليين، ونزلت الأخرى إلى أسفل سافلين، مراتب لا يعلمها إلا الله
وكلها معمورة بالخلق، قال تعالى:
{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}
وقال تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}
وبعد أن ذكرَ -جل وعلا- محاسنَ الأعمالِ التي بين العبد وربه،
ذكر محاسن الأعمال التي بين العباد بعضهم مع بعض ترغيبًا في الصبرِ على
ما يحصُل من الأذى في اللهِ، ومقابلة إساءتهم بالإحسان، وعدم إمكان التسوية بينهما
وإشارة إلى أن مثل هذه المقابلة من شأنها أن تقلب العداوة إلى صداقة وولاء شديد، فقال:
{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ}
أي: ولا تستوي الحسنة التي يرضى بها الله ويُثِيبُ عليها، ولا السيئة التي يكرهها الله ويعاقب عليها.
ثم أمر تعالى بإحسانٍ خاصٍ له موقع كبير، وهو الإحسان إلى من أساء،
فقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}
أي فإذا أساء إليك مسيء من الخلق، فادفع سفاهته وجهله بالطريقة التي هي أحسن الطرق
فقابل إساءته بالإحسان إليه، والذنب بالعفو عنه, والغضب بالصبر
والإغضاء عن الهفوات والزلات، واحتمال المكاره، وكظم الغيظ، خصوصًا
من له حق كبير عليك كالأقارب، والأصحاب، والجيران.
فإن قطعك فصله، وإن تكلم فيك غائبًا أو حاضرًا فاعف عنه، وعامله بالقول اللين
وإن هجرك وترك الكلام معك، فابذل له السلام وأطب له الكلام، فإنك إن صبرت
على سوء أخلاقهم مرة بعد أخرى، ولم تُقابل سفاهتم بالغضب
ولا أذاهم بمثله، استحيوا من ذميم أخلاقهم، وتركوا قبيح أفعالهم، وخجلوا من مقالتهم
عملهم بعملك، أنت تحسن وهم يسيئون، وتحلُم وهم يجهلون.
ثم بيّن تعالى نتائج الدفع بالتي هي أحسن وأنها الفائدة العظيمة التي لا يُستهان بها
فقال: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}
هذه هي الفائدة الحاصلة من الدفع بالتي هي أحسن، والمعنى:
أنك إذا فعلت ذلك الدفع صار العدو كالصديق، والبعيد كالقريب
فانقلبوا من العداوة إلى المحبة، ومن البغض إلى المودة.
قال عمر -رضي الله عنه -:
"ما عاقبت من عصى الله فيك، بمثل أن تطيع الله فيه".
وقال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}
تنبيه إلى شرف هذه الطريقة: أي وما يوفّق لهذه الخصلة الحميدة والوصية المفيدة
ويعمل بها إلا الصابرون على تحمل المكاره، وتجرع الشدائد، وكظم الغيظ، وترك الانتقام
فإن ذلك يشق على النفوس ويصعب احتماله؛ لأن النفوس مجبولة على مقابلة المسيء
بإساءته وعدم العفو عنه، فكيف بالإحسان.
فإذا صبر الإنسان نفسُه وامتثل لأمر ربه، وعرف جزيل الثواب وعلم أن مقابلته للمسيء
بجنس عمله لا تفيده شيئًا، ولا تزيد العداوة إلا شدة، وأن إحسانه إليه ليس بواضع قدره
بل مَنْ تَواضع لله رفعه، وهان عليه الأمر، وفعل ذلك مرتاحًا متلذذًا مستحليًا له.
قال أنس: "الرجل يشتمه أخوه، فيقول: إن كنت صادقًا غفر الله لي، وإن كنت كاذبًا غفر الله لك".
ثم أخبر تعالى أنه لا يوفّق لها إلا من له نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة
لكونها من خصال خواص الخلق التي ينال بها العبد الرفعة في الدنيا والآخرة، وهي من أكبر خصال مكارم الأخلاق.
[المصدر: الأنوار الساطعات 1/ 524-530، للشيخ/ عبد العزيز محمد بن سلمان]