أبو عبد الرحمن الشامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين و الصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف المرسلين.
محمد
صلى الله عليه وسلم هو الأعظم إنه بحق الأعظم كيف لا وقد اصطفاه الله على
بني آدم وهو خاتم الأنبياء والمرسلين أرسله ربه رحمة للعالمين ليخرج الناس
من الظلمات إلى النور .
إنه الأعظم فإذا كان في البشرية من يستحق العظمة
فهو محمد ، هذا كلام علماء الغرب المنصفين . والمسلمين يؤمنون به
ويحترمونه ويوقرونه ويبجلونه . فهو قدوتنا العليا وهو شفيعنا يوم القيامة
وقائدنا إلى الجنة . إن محمداً صلى الله عليه وسلم يستحق العظمة . كيف لا
وقد أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور وهداهم إلى صراط مستقيم .
عن
أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بالبراق ليلة أسري به ملجماً
مسرجاً، فاستصعب عليه ، فقال له جبريل : أبمحمد تفعل هذا ؟ فما ركبك أحد
أكرم على الله منه . قال : فارفض عرقاً .
إنه " رجل واحد في مقابل جميع
الرجال " ، الذي استطاع بنصر الله له وبصدق عزيمته وبإخلاصه في دعوته أن
يقف أمام الجميع ليدحض الباطل ويُظهر الحق حتى يحق الله الحق بكلماته ولو
كره الكافرون .
إن هذا الرجل العظيم الذي استطاع أن يقف أمام العالم
أجمع وأمام جهالات قريش وكفرها العنيد وأمام الأصنام وعبادة الكواكب وكل ما
يعبد من دون الله وقف يدعو الله وحده لا شريك له ونبذ كل ما سواه ، إنه
بحق لجدير بكل تبجيل واحترام ليس فقط من أتباعه بل من كل من يفهموا
العبقرية وخصائصها .
إن الصفات التي تفردت في هذا الرسول العظيم لجديرة بأن يحصل على نوط الامتياز ويحظى بكل تقدير واحترام . إنه بحق الأعظم .
فهل
بعد ذلك يوجد أي رجل أعظم منه ؟ كلا ، لا يوجد رجل أعظم منه فقد عاش حياته
كلها في خدمة البشرية جمعاء وجاء بالدين الخاتم والمسعد لجميع البشر .
إن
هذا الرجل العظيم محمد صلى الله عليه وسلم بحق رجل لم تنجب البشرية مثله
كيف لا وقد قال عنه الجبار " وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ " .. وقال تعالى "
وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ " .
إذا كان الرسول صلى الله عليه
وسلم نعمة أنعم الله به علينا فإنه حريٌ بنا حينما نتذكر النعمة نتذكر
المنعم بها ونشكره عليها. وهذا الشكر يستوجب منا أن نتمسك بكتاب الله تعالى
وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً لقوله تعالى: { لَقَدْ كَانَ
لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ
وَالْيَوْمَ الآخِرَ} (سورة الأحزاب /آية 21). فما أعظم هذه النعمة وما
أعظمك يا رسول الله وقد منحك الله سبحانه من كمالات الدنيا والآخرة ما لم
يمنحه غيره من قبله أو بعده . وقد أعطاه الله في الدنيا شرف النسب وكمال
الخلقة، وجمال الصورة وقوة العقل، وصحة الفهم وفصاحة اللسان وقوة الحواس
والأعضاء، والأخلاق العلية والآداب الشرعية من: الدين، والعلم، والحلم
والصبر والزهد والشكر والعدل والتواضع والعفو والعفة والجود والشجاعة
والحياء والمروءة والسكينة والتؤدة والوقار والهيبة والرحمة وحسن المعاشرة
ما لا يستطاع وصفه وحصره.
فما أعظمك يا رسول الله ولقد صدق ربنا سبحانه وتعالى إذ يقول في شأنك ووصفك{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (سورة القلم/ آية 4).
وها نحن نأتي إلى نبذة يسيرة من محاسن صفاته ومحاسن آدابه لتكون لنا نموذجاً نسير عليه حتى نكون على قدم نبينا صلى الله عليه وسلم.
أعميت عيني عن الدنيا وزينتها --- فأنت والروح شيء غير مفترق
إذا ذكرتك وافى مقلتي أرق --- من أول الليل حتى مطلع الفلق
وما تطابقت الأجفان عن سنةٍ --- إلا وإنك بين الجفن والحدق
نسبه صلى الله عليه وسلم
أما
شرف نسبه وكرم بلده ومنشئة فإن نسبه صلى الله عليه وسلم ينتهي إلى إسماعيل
بن إبراهيم. نسب شريف وآباء طاهرون وأمهات طاهرات؛ فهو من صميم قريش التي
لها القدم الأولى في الشرف وعلو المكانة بين العرب.
ولا تجد في سلسلة
آبائه إلا كراماً ليس فيهم مسترذل بل كلهم سادة قادة، وكذلك أمهات آبائه من
أرفع قبائلهن وكل اجتماع بين آبائه وأمهاته كان شرعياً بحسب الأصول
العربية ولم ينل نسبه شيء من سفاح الجاهلية بل طهره الله من ذلك.
روى
مسلم عن واثلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله عليه و سلم يقول: "أن الله
اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى من قريش بني
هاشم واصطفاني من بني هاشم".
كمال خلقته صلى الله عليه وسلم
أما
صورته وجماله وتناسب أعضائه وحسنه فقد جاءت الآثار الصحيحة المشهورة بذلك
وكثر الواصفون لحسن جماله صلى الله عليه وسلم ومنها أنه كان أبيض مشرباً
بالحمرة، أزهر اللون، ظاهر الوضاءة، واسع الجبين، كث اللحية سخل الخدين،
أبيض الأسنان إذا تكلم كأن النور ينهمر من فمه ويكفي في وصفه قول أبو هريرة
رضي الله عنه: ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن
الشمس تجري في وجهه. ووصفه بعض أصحابه فقال: كان رسول الله فخماً مفهماً
يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر.
وأخرج البزار بإسناد حسن عن عائشة رضي الله عنها قالت تمثلتُ في أبي:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه --- ربيع اليتامى عصمة للأرامل
فقال أبي(تعني أبا بكر): ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
لئن أعطي سيدنا يوسف شطر الجمال فقد أعطي محمد صلى الله عليه وسلم الحسن كلّه .
عظمة خُلقه وحلمه وعفوه
وأما
الأخلاق الحميدة والآداب الشريفة فجميعها كانت خلق رسول الله صلى الله
عليه وسلم على الانتهاء في كمالها ويكفيك من ذلك شهادة رب العالمين في إذ
يقول( وإنك لعلى خلق عظيم) ،ويقول النبي عن نفسه (أدبني ربي فأحسن تأديبي) ،
وفي ذلك قول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها حين سئلت: كيف كان خلق رسول
الله فقالت"كان خلقه القرءان" أي كل خصلة خير في القرءان هي في رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
وقالت عائشة رضي الله عنها في وصف خلقه أيضاً:"لم
يكن رسول الله فاحشاً ولا متفحشاً ولا يجزي السيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح
وقالت: ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة
الله تعالى.
وفي حيائه يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها وكان إذا كره شيئاً
عرفناه في وجهه" رواه البخاري.
وكان الحلم والعفو مع المقدرة من أوصافه
صلى الله عليه وسلم فقد أمره ربه تعالى أن يأخذ العفو من أخلاق الناس فقال
تعالى {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ
الْجَاهِلِينَ} (الأعراف/169).
فما من حليم إلا عرفت له زلة أما نبينا
الأعظم عليه الصلاة والسلام فكان لا يزيد مع كثرة الإيذاء إلا صبراً، ومع
إسراف الجاهل إلا حلماً. ومما يدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام:
"اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون" بعدما فعلوا به وبأصحابه ما فعلوا. وكذلك
قوله عليه الصلاة والسلام في الذين أخرجوه من دياره ونكلوا بهم وقاتلوه
وحرضوا عليه قبائل العرب وغيرهم "اذهبوا فأنتم الطلقاء" وذلك يوم الفتح.
وروى
أنس بن مالك رضي الله عنه قال:"كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد
غليظ الحاشية فجذ به أعرابي بردائه جذبة شديدة حتى أثرت حاشية البرد في
صفحة عنقه ثم قال: يا محمد احمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي عندك
فإنك لا تحمل لي من مالك ولا من مال أبيك!!!
فسكت عليه الصلاة والسلام ثم قال: المال مال الله وأنا عبده وأعطاه ما طلب، فهل هناك في الحلم والعفو في مثله صلى الله عليه وسلم.
جوده وكرمه صلى الله عليه وسلم
أما
الجود والكرم والسخاء والسماحة فقد خلقت معه منذ أن نشأ عليه الصلاة
والسلام، فقد فاق كل كرماء العرب والعجم ووصفه بذلك كل من عرفه: قال جابر
رضي الله عنه: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فقال: لا، وقال
ابن عباس رضي الله عنه: كان عليه الصلاة والسلام أجود الناس بالخير وأجود
ما يكون في رمضان. وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة.
وروى
مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على
الإسلام شيئاً قط إلا أعطاه، فأتاه رجل فسأله، فأمر له بغنم بين جبلين،
فأتى قومه فقال: أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخاف الفاقة".
شجاعته صلى الله عليه وسلم
أما
من أخبار شجاعته صلى الله عليه وسلم فقد حضر عليه الصلاة والسلام المواقف
الصعبة وفرَّ الشجعان و الأبطال عنه غير مرة وهو ثابت لا يبرح ومقبل لا
يدبر ولا يتزحزح وقال فيه بعض الصحابة: إنا كنا إذا اشتد البأس واحمرت
الحدق اتقينا برسول الله صلى عليه وسلم فما يكون أحدٌ أقرب إلى العدو منه،
ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى
العدو وكان من أشد الناس يومئذ بأساً.
وقال ابن عمر: ما رأيت أشجع ولا أبحر ولا أجود ولا أرضى من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
زهده وتواضعه عليه الصلاة والسلام
وما
جاء في زهده عليه الصلاة والسلام وتواضعه واختياره الدار الآخرة فكثير
منها ما رواه البيهقي والترمذي وابن ماجه عن عبد الله أنه قال: اضطجع النبي
صلى الله عليه وسلم على حصير فأثر الحصير بجلده، فجعلت أمسحه وأقول: بأبي
أنت وأمي يا رسول الله ألا أذنتنا فنبسط لك شيئاً يقيك منه تنام عليه فقال
عليه الصلاة والسلام: "مالي وللدنيا، وما أنا والدنيا، إنما أنا والدنيا
.....تمنع روابط التحميل الغير قانوني......ب استظل تحت شجرة ثم راح
وتركها".
ومما يشهد على زهده عليه الصلاة والسلام أنه كان يمر الشهر
والشهران ولا يوقد في بيت رسول الله نار فقالوا: ما كان طعامكم قالوا:
الأسودان التمر والماء.
وأكبر شاهد على تقلله من الدنيا وإعراضه عن
زهرتها أنه توفي عليه الصلاة والسلام ودرعه مرهونة عند يهودي ولم يترك
قصراً ولا متاعًا كثيراً بل كان بيته متواضعاً ومتاعه في غاية التواضع وكان
صلى الله عليه وسلم يوصي بترك التنعم كما في الحديث:" وإياك والتنعم فإن
عباد الله ليسوا بالمتنعمين".
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، قَالَ :
قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : لا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ
النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ ، إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ ، فَقُولُوا : عَبْدُ
اللهِ وَرَسُولُهُ .
ومن تواضعه صلى الله عليه وسلم قوله : ( لا تفضلوني على يونس بن متى ، و لا تفضلوا بين الأنبياء ، و لا تخيروني على موسى . )
و قال للذي قال له : يا خير البرية : ذاك إبراهيم .
خوفه عليه الصلاة والسلام وطاعته لربه تعالى
أما
شدة خوفه عليه الصلاة والسلام من الله شدة طاعته وعبادته فعلى قدر علمه
بربه ولذلك تمدح ومدح نفسه بقوله:" أنا أعلمكم بالله وأشدكم لله خشية"
معناه أنا أكثركم علمًا بصفات الله تعالى ومعرفة بأمور التوحيد والتنزيه
والخشية لله تبارك وتعالى، وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً "لو تعلمون ما
أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، إني أرى مالا ترون وأسمع مالا تسمعون
أطَّت السموات وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك ساجد".
ومعنى
أطت صدر منها صوت من الحمل الذي عليها وفي هذا الحديث دليل على أن السماء
مسكن للملائكة الكرام وليست مكاناً لله تعالى كما يظن المشبهة تعالى الله
عن ذلك. وروى المغيرة بن شعبة قال: قام رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى
تورمت قدماه فقيل يا رسول الله أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك و ما
تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً".
طيب ريحه صلى الله عليه وسلم
وأما
طيب ريحه فقد كان صلى الله عليه وسلم طيباً مطيباً من غير طيب وكانت
رائحته الطيبة تفوح على أنواع العطور والطيب، روى مسلم عن أنس رضي الله عنه
قال:"ما شممت شيئاً قط مسكاً ولا عنبرا أطيب من ريح رسول الله صلى الله
عليه وسلم. وعن جابر بن سمرة أنه عليه الصلاة والسلام مسح خده قال: فوجدت
ليده برداً وريحاً كأنما أخرجها من جؤنة عطار أي كيس العطر.
وكان عليه
الصلاة والسلام سواء مس يده أو لم يمسها يصافح المصافح فيظل يومه يجد ريحها
ويضع يده على رأس الصبي فيعرف من بين الصبيان بريحها، وروى البخاري: لم
يكن النبي صلى الله عليه وسلم يمر في طريق فيتبعه أحد إلا عرف أنه سلكه من
طيبه صلى الله عليه وسلم.
حسن عشرته صلى الله عليه وسلم
كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس عشرة وأوسع الناس صدراً وأصدقهم لهجة
وقد وصفه بعض أصحاب قائلا: كان دائم البشر سهل الخلق لين الجانب ليس بفظ
ولا غليظ ولا صخاب ولا فحاش ولا عياب.
قال الله تعالى {فَبِمَا رَحْمَةٍ
مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ
لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} وكان يجيب من دعاه، ويقبل الهدية، قال أنس رضي
الله عنه: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي "أف" قط
وما قال لشيء صنعته لم صنعته ولا لشيء تركته لم تركته.
وقال جرير بن عبد الله رضي الله عنه "ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم قط منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم".
وكان
صلى الله عليه وسلم يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم ويداعب صبيانهم
ويجالسهم في حجره، ويجيب دعوة الحر والعبد والأمة والمسكين، ويعود المرضى
في أقصى المدينة ويقبل عذر المعتذر ويبدأ من لقيه بالسلام ويبدأ أصحابه
بالمصاحفة، وكان أكثر الناس تبسماً وأطيبهم نفساً ما لم ينزل عليه قرءان أو
يعظ أو يخطب، وقال عبد الله بن الحارث: ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول
الله صلى الله عليه وسلم وعن أنس رضي الله عنه قال: كان خدم المدينة يأتون
فيها الماء فيغمس يده فيها للتبرك.
وكل هذا غيض كم فيض من الشمائل مما لا يستطاع حصره.
وحسبك
في ذلك حسن عشرته لأهل بيته وأزواجه اللواتي ما شكت الواحدة منهن بل كن
يروين عنه فضائل الأخلاق ومحاسن العشرة وكثرة الرحمة والشفقة وقد وصفه الله
تبارك وتعالى بذلك بقوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} هذا وزد
على ذلك معجزاته وأسراره وما خصه الله به من بين الأنبياء وتفضيله على جميع
الرسل مع المكانة العالية له يوم القيامة إذ هو صاحب الشفاعة العظمى في
ذلك اليوم العظيم وهو صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم كلهم كما روى الترمذي
أنه صلى الله عليه وسلم قال((أنا سيد ولد آدم القيامة ولا فخر)) وهو عليه
الصلاة والسلام أول داخل إلى الجنة وهو صاحب المقام المحمود والدرجة
الرفيعة والوسلية والفضيلة يوم القيامة، وأمته خير الأمم وأكثر الأمم
أتقياء وفقهاء وعلماء وشهداء. والصلاة والسلام عليه أمر يحبه الله وشرعه
الله في القرءان بقوله
(إن
الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا
تسليما )) فهو وسيلتنا إلى الله وهو شفيع المذنبين بإذن الله وهو صلى الله
عليه وسلم النور وهو البركة العظمى حياً وميتاً، فقبره مقصد الزائرين وموضع
البركات فهناك تذرف دموعهم شوقاً إليه عليه الصلاة والسلام.
عطر اللهم قبره الكريم *** بعرف شذي من صلاة وتسليم
رجاحة ووفور عقله :
أما
وفور عقله ، وذكاء لبه ، وقوة حواسه ، وفصاحة لسانه ، واعتدال حركاته ،
وحسن شمائله ـ فلا مرية أنه كان أعقل الناس وأذكاهم . ومن تأمل تدبيره أمر
بواطن الخلق وظواهرهم ، وسياسة العامة والخاصة ، مع عجيب شمائله ، وبديع
سيره ، فضلاً عما أفاضه من العلم ، وقرره من الشرع دون تعلم سبق ، ولا
ممارسة تقدمت ، ولا مطالعة للكتب منه ، لم يمتر في رجحان عقله ، وثقوب فهمه
لأول بديهة ، وهذا ما لا يحتاج إلى تقريره لتحقيقه .
وقد قال وهب بن
منبه : قرأت في أحد وسبعين كتاباً ، فوجدت في جميعها أن النبي صلى الله
عليه وسلم أرجح الناس عقلاً ، وأفضلهم رأياً . وفي رواية أخرى : فوجدت في
جميعها أن الله تعالى لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من
العقل في جنب عقله صلى الله عليه وسلم إلا كحبة رمل من بين رمال الدنيا .
ويكفيك من ذلك رجاحة عقله عندما حكم بين القبائل قبل البعثة عندما أرادوا
إعادة بناء الكعبة فاختلفوا فيمن يرفع الحجر الأسود إلى مكانه فأشار عليهم
أن يضعوه على عباءته وأن يمسك كل منهم بطرف منها ويرفعوه معاً وبذلك نالوا
جميعهم شرف رفع الحجر الأسود .
وصف شامل
قال الحسن بن علي ـ و
اللفظ لهذا السند : سألت خالي هند بن أبي هالة عن حلية رسول الله صلى الله
عليه و سلم ـ وكان وصافاً ـ وأنا أرجو أن يصفع لي منها شيئاً أتعلق به ،
قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم فخماً مفخماً ، يتلألأ وجهه تلألؤ
القمر ليلة البدر ، أطول من المربوع ، وأقصر من المشذب ، عظيم الهامة ،
رجل الشعر ، إن انفرقت عقيقته فرق ، وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنه ، إذا
هو وفره ، أزهر اللون ، واسع الجبين، أزج الحواجب ، سوابغ ، من غير قرن ،
بينهما عرق يدره الغضب ، أقنى العرنين ، له نور يعلوه ، و يحسبه من لم
يتأمله أشم ، كث اللحية ، أدعج ، سهل الخدين ، ضليع الفم أشنب ، مفلج
الأسنان ، دقيق المسربة ، كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة ، معتدل الخق ،
بادناً ، متماسكاً ، سواء البطن والصدر ، مشيح الصدر ، بعيد ما بين
المنكبين ضخم الكراديس ، أنور المتجرد ، موصول ما بين اللبة و السرة بشعر
يجري كالحظ ، عاري الثديين ، م ا سوى ذلك ، أشعر الذراعين و المنكبين و
أعالي الصدر ، طويل الزندين ، رحب الراحة ، شئن الكفين و القدمين ، سائل
الأطراف ـ [ أو قال : سائن الأطراف ] ، سبط العصب ، خمصان الأخمصين ، مسيح
القدمين ، ينبو عنهما الماء ، إذا زال زال تقلعا ، و يخطو تكفأً ، و يمشي
هوناً ، ذريع المشية ، إذا مشى كأنما ينحط من صبب ، و إذا التفت التفت
جميعاً ، خافض الطرف ، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء ، جل نظره
الملاحظة ، يسوق أصحابه ، و يبدأ من لقيه بالسلام .
قلت : صف لي منطقه .
قال
: كان رسول الله صلى الله عليه و سلم متواصل الأحزان ، دائم الفكرة ، ليست
له راحة ، و لا يتكلم في غير حاجة ، طويل السكوت ، يفتتح الكلام و يختمه
بأشداقه ، و يتكلم بجوامع الكلم فصلاً ، لا فضول فيه و لا تقصير ، دمثاً
ليس بالجافي و لا المهين ، يعظم النعمة و إن دقت ، لا يذم شيئاً ، لم يكن
يذم ذواقاً ، و لا يمدحه ، و لا يقام لغضبه إذا تعرض للحق بشيء حتى ينتصر
له ، و لا يغضب لنفسه و لا ينتصر لها ، إذا أشار أشار بكفه كلها ، و إذا
تعجب قلبها و إذا تحدث اتصل بها ، فضرب بإبهامه اليمنى راحته اليسرى ، و
إذا غضب أعرض و أشاح ، و إذا فرح غض طرفه ، جل ضحكه التبسم ، و يفتر عن مثل
حب الغمام .
قال الحسن: فكتمتها الحسين بن علي زماناً ،ثم حدثته فوجدته
قد سبقني إليه ، فسأل أباه عن مدخل رسول الله صلى الله عليه و سلم و مخرجه
و مجلسه و شكله ، فلم يدع منه شيئاً .
قال الحسين : سألت أبي عن دخول
رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقال : كان دخوله لنفسه مأذوناً له في ذلك
، فكان إذا أوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء : جزءاً لأهله ، و جزؤاً
لنفسه ، جزأ جزأه بينه و بين الناس ، فيرد ذلك على العامة بالخاصة ، و لا
يدخر عنهم شيئاً ، فكان من سيرته في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه و
قسمته على قدر فضلهم في الدين ، منهم ذو الحاجة ، و منهم ذو الحاجتين ، و
منهم ذو الحوائج ، فيتشاغل بهم ، و يشغلهم فيما أصلحهم ، و الأمة من مسألته
عنهم و إخبارهم بالذي ينبغي لهم ، و يقول : ليبلغ الشاهد منكم الغائب ، و
أبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته ، فإنه من أبلغ سلطاناً حاجة من لا
يستطيع إبلاغها ثبت الله قدميه يوم القيامة . لا يذكر عنده إلا ذلك ، و لا
يقبل من أحد غيره .
وقال في حديث سفيان بن وكيع : يدخلن رواداً ، ولا يتفرقون إلا عن ذواق ، و يخرجون أدلة ـ يعني فقهاء .
قلت : فأخبرني عن مخرجه كيف كان يصنع فيه ؟
قال
: كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يخزن لسانه إلا مما يعنيهم و يؤلفهم و
لا يفرقهم ، يكرم كريم كل قوم ، و يوليه عليهم ، و يحذر الناس ، و يحترس
منهم ، من غير أن يطوي عن أحد بشره و خلقه ، و يتفقد أصحابه ، و يسأل الناس
، و يحسن الحسن و يصوبه ، و يقبح القبيح و يوهنه ، معتدل الأمر غير مختلف ،
لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا ، لكل حال عنده عتاد ، لا يقتصر عن الحق
، و لا يجاوزه إلى غيره ، الذي يلونه من الناس خيارهم ، و أفضلهم عند
أعمهم نصيحة ، و أعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة و موازرة .
فسألته عن مجلسه : عما كان يصنع فيه .
فقال
: كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يجلس و لا يقوم إلا على ذكر ، و
لا يوطن الأماكن ، و ينهى عن إيطانها ، و إذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي
به المجلس ، و يأمر بذلك ، و يعطي كل جلسائه نصيبه حتى لا يحسب ، جليسه أن
أحداً أكرم عليه فيه ، من جالسه أو قاومه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف
عنه . من سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول . قد وسع ا لناس ،
بسطه و خلقه ، فصار لهم أباً ، و صاروا عنده في الحق سواء ، متقاربين
متفاضلين فيه التقوى .
و في الرواية الأخرى : صاروا عنده في الحق سواء ،
مجلسه مجلس حلم و حياء ، و صبر و أمانة ، لا ترفع فيه الأصوات ، و لا تؤبن
فيه الحرم ، و لا تثنى فلتاته ، و هذه الكلمة ، من غير الروايتين .
يتعاطون فيه بالتقوى متواصفين ، يوقرون فيه الكبير ، و يرحمون الصغير ، و يرفدون ذا الحاجة ، و يرحمون الغريب .
فسألته عن سيرته صلى الله عليه و سلم في جلسائه .
فقال
: كان رسول الله صلى الله عليه و سلم دائم البشر ، سهل الخلق ، لين الجانب
، ليس بفظ و لا غليظ ، و لا سخاب ، ولا فحاش ، ولا عياب ولا مداح ، يتغافل
عما لا يشتهي ولا يوئس منه ، قد ترك نفسه من ثلاث : الرياء ، و الإكثار ، و
ما لا يعنيه ، و ترك الناس من ثلاث : كان لا يذم أحداً ، و لا يعيره ، و
لا يطلب عورته ، و لا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه ، إذا تكلم أطرق جلساؤه
كأنما على رؤسهم الطير ، إذا سكت تكلموا ، لا يتنازعون عنده الحديث . من
تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ ، حديثهم حديث أولهم ، يضحك مما يضحكون منه ،
و يتعجب مما يتعجبون منه ، و يصبر للغريب على الجفوة في المنطق ، و يقول :
إذا رأيتم صاحب الحجة يطلبها فأرفدوه ، ولا يطلب الثناء إلا من مكافئ ،
ولا يقطع على أحد حديثه حتى يتجوزه فيقطعه بانتهاء أو قيام . هنا انتهى
حديث سفيان بن وكيع .
و زاد الآخر : كيف كان سكوته صلى الله عليه و سلم ؟
قال
: كان سكوته على أربع : الحلم ، و الحذر ، و التقدير ، والتفكير . فأما
تقديره ففي تسوية النظر و الاستماع بين الناس ، وأما تفكره ففيما يبقى
ويفنى . وجمع له الحلم صلى الله عليه وسلم في الصبر ، فكان لا يغضبه شيء
يستفزه ، وجمع له في الحذر أربع : أخذه بالحسن ليقتدى به ، وتركه القبيح
لينتهى عنه ، واجتهاد الرأي بما أصلح أمته ، والقيام لهم بما جمع أمر
الدنيا و الآخرة . انتهى الوصف بحمد الله و عونه
بركاته عليه الصلاة والسلام
أما
بركاته صلى الله عليه وسلم فهي كثيرة منها ما رواه جابر أنه عليه الصلاة و
السلام أطعم يوم الخندق ألف رجل من صاع شعير وعناق(وهي الأنثى من أولاد
المعز التي لم يتم لها سنة) وقال جابر: فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه
وانحرفوا وإن برمتنا لتغط كما هي وأن عجيننا لينجز.
وكان عليه الصلاة
والسلام قد تفل في العجين والبرمة (والبرمة هي قدر من حجارة وتغط أي لها
صوت من شدة غليانها) فانظر كيف جعل البركة فأكل هذا العدد من الرجال بصاع
شعير وقليل من اللحم.
ومن بركاته أن سعيد بن النعمان أصيبت عينه فوقعت
على وجنته فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت أحسن عينيه، وروي أن
بعض الصحابة ابيضت عيناه فكان لا يبصر بهما شيئاً فنفث رسول الله صلى الله
عليه وسلم في عينيه فأبصر وصار يدخل الخيط في الإبرة وهو ابن ثمانين، وروي
أن قدراً انكفأت على ذارع محمد بن حاطب وهو طفل فمسح عليها ودعا له فبرأ
لحينه.
ومن بركاته أن العمى زال بدعوته وبركاته فلقد روى النسائي
والطبراني عن عثمان بن حنيف أن أعمى قال: يا رسول الله ادع الله أن يكشف لي
عن بصري، فعلمه عليه الصلاة والسلام أن يتوضأ ويصلي ركعتين ثم يقول "اللهم
إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد أني أتوجه بك إلى
ربي" قال راوي الحديث: والله ما تفرقنا ولا طال بنا المجلس حتى عاد الرجل
يبصر.وهذا الدعاء كان في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم .
الرحمة المهداة
قال
تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )الأنبياء 107 لولاه لنزل العذاب
بالأمة ولاستحققنا الخلود بالنار ولضعنا في مهاوي الرذيلة والفساد
والانحطاط ( وما كان الله معذبهم وأنت فيهو وما كان الله معذبهم وهم
يستغفرون ) فوجوده أمان لنا من النار ومن العذاب . قال ابن القيم في جلاء
الأفهام : إنّ عموم العالمين حصل لهم النفع برسالته :
أمّا أتباعه : فنالوا بها كرامة الدنيا والآخرة .
وأمّا
أعداؤه المحاربون له : فالذين عجّل قتلهم وموتهم خيرٌ لهم من حياتهم لأن
حياتهم زيادة في تغليظ العذاب عليهم في الدار الآخرة ، وهم قد كتب الله
عليهم الشقاء فتعجيل موتهم خير لهم من طول أعمارهم في الكفر .
وأمّا المعاهدون له : فعاشوا في الدنيا تحت ظلّه وعهده وذمته ، وهم أقل شرّاً بذلك العهد من المحاربين لهم .
وأمّا المنافقون : فحصل لهم بإظهار الإيمان حقن دمائهم وأموالهم وأهلهم واحترامها ، وجريان أحكام المسلمين عليهم .
وأمّا الأمم النائية عنه : فإن الله سبحانه وتعالى رفع برسالته العذاب العامّ عن أهل الأرض .
فأصاب كل العالمين النفع برسالته . انتهى
قال
أبو بكر بن طاهر : زين الله تعالى محمداً صلى الله عليه و سلم بزينة
الرحمة ، فكان كونه رحمة ، و جميع شمائله و صفاته رحمة على الخلق ، فمن
أصابه شيء من رحمته فهو الناجي في الدارين من كل مكروه ، و الواصل فيهما
إلى كل محبوب ، ألا ترى أن الله يقول : (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )،
فكانت حياته رحمة ، و مماته رحمة ، كما قال عليه السلام : حياتي خير لكم و
موتي خير لكم و كما قال عليه الصلاة و السلام : إذا أراد الله رحمة بأمة
قبض نبيها قبلها ، فجعله لها فرطاً و سلفاً . و قال السمرقندي : رحمة
للعالمين : يعني للجن و الإنس . و قيل : لجميع الخلق ، للمؤمن رحمة
بالهداية ، و رحمة للمنافق بالأمان من القتل ، ورحمة للكافر بتأخير العذاب .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : هو رحمة للمؤمنين وللكافرين ، إذ عوفوا مما
أصاب غيرهم من الأمم المكذبة .
وحكى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
لجبريل عليه السلام : هل أصابك من هذه الرحمة شيء ؟ قال : نعم ، كنت أخشى
العاقبة فأمنت لثناء الله عز وجل علي بقوله : ذي قوة عند ذي العرش مكين *
مطاع ثم أمين [ سورة التكوير / 81 : الآية 20 ـ 21 ] .
و روي عن جعفر بن
محمد الصادق ـ في قوله تعالى : فسلام لك من أصحاب اليمين . أي بك ، إنما
وقعت سلامتهم من أجل كرامة محمد صلى الله عليه و سلم .
عن أبي بردة بن
أبي موسى ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنزل الله
علي أمانين لأمتي ، وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم
وهم يستغفرون فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار . و قال عليه السلام : أنا
أمان لأصحابي . قيل : من البدع . و قيل : من الاختلاف و الفتن . قال بعضهم :
الرسول صلى الله عليه و سلم هو الأمان الأعظم ما عاش ، و ما دامت سنته
باقية فهو باق ، فإذا أميتت سنته فانتظر البلاء و الفتن .
علو منزلته ورفعة مكانته وذكره
قال
القاضي عياض في كتاب الشفا : قال تعالى (ورفعنا لك ذكرك) قال يحيى بن آدم :
بالنبوة (أي رفع اللهُ للنبي ذكرَه بالنبوة) . وقيل : إذا ذكرت ذكرت معي
قول : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله . وقيل : في الأذان [ 8 ] . قال
القاضي أبو الفضل : هذا تقرير من الله جل اسمه لنبيه صلى الله عليه وسلم
على عظيم نعمه لديه ، وشريف منزلته عنده ، وكرامته عليه ، بأن شرح قلبه
للإيمان والهداية ، ووسعه لوعى العلم ، وحمل الحكمة ، ورفع عنه ثقل أمور
الجاهلية عليه ، وبغضه لسيرها ، وما كانت عليه بظهور دينه على الدين كله ،
وحط عنه عهدة أعباء الرسالة والنبوة لتبليغه للناس ما نزل إليهم ، وتنويهه
بعظيم مكانه ، وجليل رتبته ، ورفعه و ذكره ، وقرانه مع اسمِه اسمَه . قال
قتادة : رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب
صلاة إلا يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . وروى أبو
سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أتاني جبريل عليه السلام
،فقال : إن ربي و ربك يقول : تدري كيف رفعت ذكرك ؟ قلت : الله ورسوله أعلم .
قال : إذا ذكرتُ ذكرتَ معي . قال ابن عطاء : جعلت تمام الإيمان بذكري معك .
وقال أيضاً : جعلتك ذكراً من ذكرى ، فمن ذكرك ذكرني . وقال جعفر بن محمد
الصادق : لا يذكرك أحد بالرسالة إلا ذكرني بالربوبية . وأشار بعضهم في ذلك
إلى الشفاعة . ومن ذكره معه تعالى أن قرن طاعته بطاعته واسمه باسمه ، فقال
تعالى : أطيعوا الله والرسول . وآمنوا بالله ورسوله ، فجمع بينهما بواو
العطف المشركة . ولا يجوز جمع هذا الكلام في غير حقه عليه السلام .
قال
الله تعالى : لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون [ سورة الحجر / 15 : الآية 72] .
اتفق أهل التفسير في هذا أنه قسم من الله جل جلاله بمدة حياة محمد صلى
الله عليه و سلم ، و أصله ضم العين ، من العمر ، و لكنها فتحت لكثرة
الاستعمال . و معناه : و بقائك يا محمد و قيل : و عيشك . و قيل : و حياتك .
و هذه نهاية التعظيم ، و غاية البر و التشريف . قال ابن عباس رضي الله
عنهما : ما خلق الله تعالى ، و ما ذرأ ، و ما برأ نفساً ـ أكرم عليه من
محمد صلى الله عليه و سلم ، و ما سمعت الله تعالى أقسم بحياة أحد غيره .
وقال أبو الجوزاء : ما أقسم الله تعالى بحياة أحد غير محمد صلى الله عليه و سلم ، لأنه أكرم البرية عنده .
وقال
جعفر بن محمد : من تمام نعمته عليه أن جعله حبيبه ، وأقسم بحياته ، ونسخ
به شرائع غيره ، وعرج به إلى المحل الأعلى ، وحفظه في المعراج حتى ما زاغ
البصر وما طغى ، وبعثه إلى الأحمر والأسود ، وأحل له ولأمته الغنائم ،وجعله
شفيعاً مشفعاً،وسيد ولد آدم ، وقرن ذكره بذكره ، ورضاه برضاه ،وجعله أحد
ركني التوحيد.
تكريم الله له
جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه
من قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : إني اتخذتك خليلاً ، فهو
مكتوب في التوراة : أنت حبيب الرحمن .
والخليل قال : ولا تخزني يوم يبعثون [ سورة الشعراء / 26 ، الآية : 87] .
والحبيب قيل له : يوم لا يخزي الله النبي ، فابتدئ بالبشارة قبل السؤال .
والخليل قال في المحنة : حسبي الله [ سورة الزمر / 39 ، الآية : 38 ] .
والحبيب قيل له : يا أيها النبي حسبك الله [ سورة الأنفال / 8 ، الآية : 64 ] .
والخليل قال : اجعل لي لسان صدق في الآخرين [ سورة الشعراء / 26 ، الآية : ]
والحبيب قيل له : ورفعنا لك ذكرك ، أعطي بلا سؤال .
والخليل قال : واجنبني وبني أن نعبد الأصنام . سورة إبراهيم / 14 ، الآية : 35 .
والحبيب قيل له : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً
ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم ( ألم نشرح لك صدرك ) ( ونيسرك لليسرى ) ( فإنما يسرناه بلسانك ) ( لعلك ترضى ) .
ويقول على لسان موسى عليه السلام ( اشرح لي صدري ) ( يسّر لي أمري ) ( احلل عقدة من لساني ) ( وعجلت إليك ربي لترضى ) .
عن
القاسم بن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله
اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً وإنه لم يكن نبي إلا وله خليل ألا
وإن خليلي أبو بكر).
عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و
سلم : إن الله قسم الخلق قسمين ، فجعلني من خيرهم قسماً ، فذلك قوله :
أصحاب اليمين ، و أصحاب الشمال ، فأنا من أصحاب اليمين ، وأنا خير أصحاب
اليمين ثم جعل القسمين أثلاثاً ، فجعلني في خيرها ثلثاً ، و ذلك قوله تعالى
: فأصحاب الميمنة . و أصحاب المشأمة ، و السابقون السابقون ، فأن من
السابقون ، و أنا خير السابقين ، ثم جعل الأثلاث قبائل ، فجعلني من خيرها
قبيلة ، و ذلك قوله : وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله
أتقاكم . فأنا أتقى ولد آدم و أكرمهم على الله و لا فخر . ثم جعل القبائل
بيوتاً ، فجعلني من خيرها بيتاً ، فذلك قوله تعالى : إنما يريد الله ليذهب
عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 33 ] .
ومن
رواية ابن وهب ـ أنه عليه السلام قال : قال الله تعالى : سل يا محمد .
فقلت : ما أسأل يا رب ؟ اتخذتَ إبراهيم خليلاً ، وكلمتَ موسى تكليماً ،
واصطفيتَ نوحاً ، وأعطيتَ سليمان ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده ، فقال الله
تعالى : ما أعطيتك خير من ذلك ، أعطيتك الكوثر ، وجعلت اسمك مع اسمي ،
ينادى به في جوف السماء ، وجعلت الأرض طهوراً لك ، ولأمتك ، وغفرت لك ما
تقدم من ذنبك وما تأخر ، فأنت تمشي في الناس مغفوراً لك شفاعتك ، ولم أصنع
ذلك لأحد قبلك ، وجعلت قلوب أمتك مصاحفها ، وخبأت لك شفاعتك ، ولم أخبأها
لنبي غيرك .
وحكى أبو محمد مكي ، و أبو الليث السمرقندي و غيرهما ـ أن
آدم عند معصيته قال : اللهم بحق محمد اغفر لي خطيئتي . و يروى : تقبل توبتي
. فقال له الله : (من أين عرفت محمداً ) ؟ فقال : رأيت في كل موضع من
الجنة مكتوباً : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، أو: محمد عبدي و رسولي
، فعلمت أنه أكرم خلقك عليك . فتاب الله عليه ، و غفر له . و هذا عند
تأويل قوله تعالى : فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه . و في رواية الأجري
قال : فقال آدم ، لما خلقتني ر فعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب : لا إله
إلا الله محمد رسول الله ، فعلمت أنه ليس أحد أعظم قدراً عندك ممن جعلت
اسمه مع اسمك ، فأوحى الله إليه : و عزتي و جلالي ، إنه لآخر النبين من
ذريتك و لولاه ما خلقتك .
عن ابن عباس ، قال : جلس ناس من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم ينتظرونه ، قال : فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون
، فسمع حديثهم ، فقال بعضهم : عجباً ! إن الله اتخذ من خلقه خليلاً ، اتخذ
إبراهيم خليلاً . وقال آخر : ماذا بأعجب من كلام موسى ، كلمه الله تكليماً
. وقال آخر : فعيسى كلمه الله وروحه وقال آخر : وآدم اصطفاه الله .
فخرج
عليهم فسلم ، وقال : قد سمعت كلامكم و عجبكم ، أن الله تعالى اتخذ إبراهيم
خليلاً ، و هو كذلك ، و موسى نجي الله وهو كذلك ، وموسى نجي الله ، وهو
كذلك ، وعيسى روح الله ، وهو كذلك ، وآدم اصطفاه الله ، وهو كذلك ، ألا
وأنا حبيب الله ولا فخر ، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر ، وأما من يحرك
حلق الجنة فيفتح الله لي فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر ، وأنا
أكرم الأولين والآخرين ولا فخر .
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (اتخذ الله إبراهيم خليلاً وموسى نجياً واتخذني حبيباً ثم
قال: وعزتي لأوثرن حبيبي على خليلي ونجيي) فبمقارنة بسيطة يتضح رفعة النبي
محمد صلى الله عليه وسلم فوق كلّ الأنبياء والمرسلين ( ورفعنا بعضهم فوق
بعض درجات ) ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ) كيف لا وقد كان إمامهم في
الإسراء في المسجد الأقصى وهو دعوة أبينا إبراهيم والذي بشر به موسى وعيسى
عليهما السلام ، وما كانت شرائعهم إلا تمهيدا لخاتمة الرسالات ولنبوة محمد
عليه الصلاة والسلام وهو القائل لو كان معي موسى لما وسعه إلا أن يتبعني ،
وعندما يهبط عيسى عليه السلام فإنه سيكون من أتباع سيدنا محمد وسيصلي خلف
الإمام دلالة على ذلك .
ولو وزنت به عرب وعجم --- جُعلت فداه ما بلغوه وزنا
إذا ذكر الخليل فذا حبيب --- عليه الله في القرآن أثنى
وإن ذكروا نجي الطور فاذكر --- نجي العرش مفتقراً لتغنى
فإنّ الله كلم ذاك وحيا --- وكلّم ذا مخاطبةً وأثنى
ولو قابلت لفظة "لن تراني" --- لـ "ما كذب الفؤاد " فهمت معنى
فموسى خرّ مغشياً عليه --- وأحمد لم يكن ليزيغ ذهناً
وإن ذكروا سليمان بملكٍ --- فحاز به الكنوز وقد عرضنا
فبطحا مكة ذهباً أباها --- يبيد الملك واللذات تفنى
وإن يك درع داوود لبوساً --- يقيه من اتقاء البأس حصنا
فدرع محمد القرآن لما --- تلا "والله يعصمك "اطمأنا
وأغرق قومه في الأرض نوحٌ --- بدعوة "لا تذر" أحداً فأفنى
ودعوة أحمد (رب اهد قومي) --- فهم لا يعلمون كما علمنا
وكل المرسلين يقول "نفسي" --- وأحمد " أمّتي "إنساً وجنّا
وكلّ الأنبياء بُدُورُ هَدْيٍ --- وأنت الشمس أكملهم وأهدى
صور من عظمة الرسول صلى الله عليه وسلّم
قبل
أن نخوض في بعض مناحي عظمة الرسول لا بد أن نقول : إنّ مما يدل على عظمة
النبي صلى الله عليه وسلم : هو كثرة أسمائه وصفاته ، قال بعضهم : أعطاه
اسمين من أسمائه : رؤوف ، رحيم .
قال الحسين بن الفضل : لم يجمع الله
لأحد من الأنبياء اسمين من أسمائه إلا للنبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه قال
عن نفسه (إنّ الله بالناس لرؤوف رحيم )الحج 65 وقال عن النبي صلى الله
عليه وسم ( بالمؤمنين رؤوف رحيم ) التوبة 128 .
وعن جُبَيْرِ بْنِ
مُطْعِمٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : إِنَّ لِي
أَسْمَاءً ، أَنَا مُحَمَّدٌ ، وَأَنَا أَحْمَدُ ، وَأَنَا الْمَاحِي
الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي
يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي ، وَأَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ
بَعْدَهُ نَبِيٌّ .
عَنْ حُذَيْفَةَ ، قَالَ : لَقِيتُ النَّبِيَّ صلى
الله عليه وسلم ، فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ ، فَقَالَ : أَنَا
مُحَمَّدٌ ، وَأَنَا أَحْمَدُ ، وَأَنَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ ، وَنَبِيُّ
التَّوْبَةِ ، وَأَنَا الْمُقَفَّى ، وَأَنَا الْحَاشِرُ ، وَنَبِيُّ
الْمَلاحِمِ .
عندما كان محمد صلى الله عليه وسلم في محاولته لكسب رؤساء
قبيلة ( قريش ) وفي أثناء حديثه معهم حاول عبد الله بن أم مكتوم وهو (بصير
) أن يسأل عن شيء مهم من أمور الإسلام فانصرف عنه النبي صلى الله عليه
وسلم فعاتب القرآن النبي محمد في سورة ( عبس ) لانصرافه عنه وصرف وجهه إلى
صنديد الكفر رغبة منه في دخوله في الإسلام فاعتبر القرآن ذلك أنه لا حاجة
له في تمني دخولهم الإسلام ولكن المسلمين الذين جاءوا إليك أولى بهذا
الاهتمام ، وما يدريك يا محمد أن هذا الكافر سوف يزكى ويدخل في الإسلام إنه
في علم الغيب والأمر موكل إلى الله . ولقد حدثت واقعة أخرى قريبة من تلك
عندما اتفق مبدئياً كفار قريش وصناديدها مع الرسول على أن يجعل لهم يوماً
يجلسون معه فيه ويجعل للفقراء والعبيد يوم خاص بهم وكان هذا شرط لإيمانهم
وقد كاد يميل قلب الرسول لهذا الاقتراح فعاتبه ربه على ذلك وطلب منه أن
يترك هذا الاقتراح فالمسلمون سواسية كأسنان المشط وقال تعالى في هذا العتاب
( لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ، إِذاً
لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ) . وفي هاتين
الحالتين لم يكتم النبي ما نزل إليه من الوحي وهذا دليل واضح على عظمته .
وصورة
أخرى من عظمته : عندما سألته زوجته عائشة أم المؤمنين عن خديجة ألم يعوضك
الله خيراً منها ؟ فأجابها : لا، فهي التي آمنت به وصدقته عندما كذبه الناس
وعادوه ! فلم يستسلم للغيرة ولم يحاول أن يخدعها أو يجاملها . وهذا عظمته
من صلى الله عليه وسلم .
وعندما خُيّرَ رسول الله في أن يكون نبينا
ملكاً أو عبداً نبياً فاختار أن يكون عبداً نبياً لما في مقام العبودية من
الشرف والتكريم فقال تعالى وهو ينسبه إلى نفسه : " سُبْحَانَ الَّذِي
أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى " يدل ذلك على رفضه اختيار الملك من قبل الله تعالى .
عرض
عليه كفار قريش مرة المُلكَ والجاه والسلطان والمال والثروة والرياسة عليهم
بل على العرب جميعاً في مقابل ترك الدعوة الإسلامية والرجوع إلى آلهتهم
الضالة فقالوا قولتهم المشهورة : إن كنت تريد مالاً جمعنا لك المال وجعلناك
أغنى رجلا فينا وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا وجعلنا لك الأمر وإن كان
بك مس من الجن أو مرض لا يشفى عالجناك حتى تشفى من هذا المرض .فرفض كل ذلك
ورفض كل تلك الإغراءات الكذابة التي لا تغري إلا ضعاف القلوب وأصحاب العقول
الفاسدة الذين يركنون إلى الدنيا وملذاتها وينسون الآخرة وما فيها فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم قولته الشهيرة التي يذكرها التاريخ له بكل ما
فيها من نور وضياء وهدى ورحمة قال لعمه أبو طالب يا عم والله لو جعلوا
القمر عن يميني والشمس عن يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره
الله أو أهلك دونه . إنها قولة تقشعر لها الجلود وتخشع لها القلوب قولة رجل
واثق من نصر ربه واثق ومؤمن بما يبلغ عن ربه من أن الله سينصر هذا الدين
ويعلي رايته ولو كره الكافرون .
فكان هذا النبي العظيم جديراً لأن يحظى
بكل حب وبكل تقدير وبكل احترام وبكل تبجيل من جميع من اتبعوه وآمنوا به
واتبعوا النور الذي جاء به وممن لم يؤمنوا به .
ومن صور عظمته ما
روى ابن ماجه في سننه عن قيس بن أبي حازم : أن رجلاً أتي رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فقام بين يديه فأخذته رعدة فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ( هوّن عليك فإني لست بملك ، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل
القديد)
نعم فهذا التواضع هو من عظمة الرسول عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم .
ومن
ينسى الموقف العظيم عندما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحا فقال
لأهلها بعد أن آذوه وعذبوه : ما تظنون أني فاعل بكم ؟ فقالوا أخ كريم وابن
أخ كريم . فقال لهم اذهبوا فأنتم الطلقاء .
إن هذا الرجل نجح في
حياته واستمر نجاحه بعد موته على يد أتباعه ، فقد صنع الأبطال إنها مدرسة
محمد صلى الله عليه وسلم التي خرجت الأبطال والدعاة الذين جابوا الأرض
شرقاً وغرباً لنشر دين الله ونوره وتبليغه إلى الناس . إن أعظم موقف يدل
على عظمة الرجال الذين صنعهم في حياته هو موقفهم عند موته ، عندما قام أبو
بكر غير متأثر بهذا الخبر فدخل على رسول الله بعد ما سمع بوفاته وخرج على
المسلمين وقال " أيها الناس ، من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن
كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت " . وقرأ قوله تعالى " وَمَا مُحَمَّدٌ
إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ
قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ " .
ولذلك ليس غريب أن يضعه
مايكل هارت في كتابه العظماء مائة في مقدمتهم فقال مايكل عن سبب اختياره
لمحمد وكونه الأعظم فقال : ( إن اختياري لمحمد ليقود قائمة أكثر أشخاص
العالم تأثيراً في البشرية قد يدهش بعض القراء وقد يعترض عليه البعض ..
ولكنه كان ( أي محمد) الرجل الوحيد في التاريخ الذي حقق نجاحاً بارزاً في
كل من المستوى الديني والدنيوي ) .
وقال عنه أحد المفكرين الغربيين أنه
لو أعطى لمحمد زمام الأمور في هذا العالم المليء بالملابسات والمشكلات لقاد
البشرية إلى بر الأمان .
" لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ " ( الأحزاب : 21 )
ويمكننا الآن أن نستنتج لماذا قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم " وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ " " الشرح : 44 " .
وأقوال المستشرقين في الاعتراف بعظمته كثيرة منها : من كتاب عظمة محمد لأحمد ديدات
1-
" كان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الرأفة والطيبة بعينيها والذين من حوله
كانوا يشعرون بتأثيره ولم ينسوه أبداً " . ديوان شاندشارمة . باحث هندوسي ،
وذلك في كتابه رسل الشرق سنة 1935 ص 122 .
2- " ولد في مكة في جزيرة
العرب سنة 569 بعد الميلاد – وبعد أربع سنوات من وفاة يوستنيانوس الأول –
الرجل الذي كان له أعظم تأثير على الجنس البشري من بين جميع الرجال ، محمد
صلى الله عليه وسلم " . جون وليم درايو طبيب ودكتور في الحقوق في كتابه "
تاريخ التطور الفكري الأوربي " . لندن 1875 .
3- " إنني أشك أن أي إنسان
لا يتغير رغم التغيرات الكبيرة في ظروفه الخارجية ، كما لم يتغير محمد ،
لكي يلائم ويوافق هذه التغيرات " .ر . ف . ك بودلي في " جريدة الرسول "
لندن سنة 1946 ص 6 .
4- " لقد درست الرجل الرائع وفي رأيي أنه يجب أن
يدعى منقذ البشرية فهو بعيد كل البعد من أن يدعى ضد المسيح " . جورج برنارد
شو في ( الإسلام الصادق ) ج1 سنة 1936 .
5- " من حسن الحظ إنه لأمر
فريد على الإطلاق في التاريخ إن محمد مؤسس لثلاثة أشياء : الأمة
والإمبراطورية والدين " . ر . بوزوورث – سميث في كتاب محمد والمحمدية سنة
1946 .
6- " لقد كان محمد الأكثر توفيقاً من بين جميع الشخصيات الدينية " .دائرة المعارف البريطانية .
إذا
كانت عظمة الغاية ، وقلة الوسائل ، والنتائج المذهلة هي المقاييس الثلاثة
لعبقرية الإنسان فمن يجرؤ على مقارنة أي رجل عظيم في التاريخ بمحمد صلى
الله عليه وسلم ؟
حكيم – خطيب – رسول – مشرع – محارب – هازم الأفكار
الباطلة – ومُحيي المعتقدات العقلانية وعبادة بلا أصنام ولا صور – مؤسس 20
إمبراطورية دنيوية وإمبراطورية واحدة روحية ذلك هو محمد . وبالنظر إلى كل
المقاييس التي يمكن أن تقاس بها عظمة البشر يحق لنا أن نسأل هل يوجد أي
إنسان أعظم منه ؟ بالتأكيد .... لا .
إنه " رجل واحد في مقابل جميع
الرجال " ، الذي استطاع بنصر الله له وبصدق عزيمته وبإخلاصه في دعوته أن
يقف أمام الجميع ليدحض الباطل ويُظهر الحق حتى يحق الله الحق بكلماته ولو
كره الكافرون .
إن هذا الرجل العظيم الذي استطاع أن يقف أمام العالم
أجمع وأمام جهالات قريش وكفرها