الكفار لا يتمنون الموت أبدا
قال تعالى : {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) [البقرة/94-96]
قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ : إِنْ كُنْتُمْ تَعْتَقِدُونَ صِدْقاً أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءَ اللهِ وَأَحبَّاؤُهُ مِنْ دُونِ النَّاس ، وَأَنَّ النَّارَ لَنْ تَمسَّكُمْ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ ، وأنَّ لَكُمُ الجَنَّةَ وَحْدَكُمْ وَمَنْ عَدَاكُمْ مِنَ الخَلْقِ فِي النَّارِ ، فَتَمَنَّوُا المَوْتَ الذِي يُوصِلُكُمْ إِلى ذلِكَ النَّعِيمِ الخَالِصِ الدَّائِمِ الذِي لا يُنَازِعُكُمْ فِيهِ أَحَدٌ ، وَاطْلُبُوا المَوْتَ مِنَ اللهِ . فَإِذَا لَمْ يَتَمَنَّوْهُ كَانُوا غَيْرَ صَادِقِينَ في إِيمَانِهِمْ .
وَلَنْ يَتَمَنَّى هَؤُلاءِ الكَافِرُونَ بِكَ يا مُحَمَّدُ أنْ يَنْزِلَ بِهِم المَوتُ أبَداً ، لأَنَّهُمْ مَا قَدَّمَتْ أيْدِيهِمْ ، ومَا أسْلَفَتْ مِنْ سَيِّئِ الأعْمَالِ ، فَهُمْ يَخَافُونَ عِقَابَ الله عَلَيها ، وَاللهُ يَعْلَمُ أنَّهُمْ ظَالِمُونَ في قَوْلِهِمْ : إِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ خَالِصَةٌ لَهُم مِنْ دُونِ النَّاسِ .
وَلَتَجِدَنَّ يَا مُحَمَّدُ اليَهُودَ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى البَقَاءِ فِي الحَيَاةِ ، حَتَّى لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ مِنَ المُشْرِكِينَ الذِينَ لاَ كِتَابَ لَهُمْ ، وَلاَ يَعْتَقدُونَ بِوُجُودِ بَعْثٍ وَحَشْرٍ وَحِسْابٍ عَلَى الأعْمَالِ ، وَلِذلِكَ حَصَرُوا هَمَّهُمْ في الحَيَاةِ الدُّنيَا أَمَّا اليَهُودُ فِإِنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالبَعْثِ وَالحِسَابِ ، وَيَعْلَمُونَ مَا قَدَّمَتْ أَيْدِيْهِمْ مِنْ كُفْرٍ وَخُرُوجٍ عَنْ أَمْرِ اللهِ ، وَقَتْلٍ لأَنْبِيَائِهِ ، وَيَعْلَمُونَ مَا يَنْتَظِرُهُمْ فِي الآخِرَةِ مِنْ مَقْتِ اللهِ وَغَضَبِهِ وَشدِيدِ عَذَابِهِ ، وَلِذلِكَ فَإِنَّهُمْ يَتَمَنَّونَ أنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ يَوْمِ القِيَامَةِ أمَدٌ بَعِيدٌ ، وَأنْ يَعِيشُوا دَهْراً طَوِيلاً لِكَيْلا يَصِلُوا إلى العَذَابِ الذِي يَنْتَظِرُهُمْ في الآخِرَةِ .
ويَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَائِلاً : وَلَوْ عَاشَ أحَدُهُمْ ألْفَ سَنَةٍ ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُنْجِيهِ مِنَ العَذَابِ ، مَا دَامَ مُقِيماً عَلَى كُفْرِهِ ، وَمُصِراً عَلَى الإِتْيَانِ بِالأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ ، وَاللهُ مُبْصِرٌ وَمُشَاهِدٌ مَا يَعْمَلُونَ .[1]
" لن يتمنوه. لأن ما قدمته أيديهم للآخرة لا يطمعهم في ثواب ، ولا يؤمنهم من عقاب. إنه مدخر لهم هناك ، واللّه عليم بالظالمين وما كانوا يعملون.وليس هذا فحسب. ولكنها خصلة أخرى في يهود ، خصلة يصورها القرآن صورة تفيض بالزراية وتنصح بالتحقير والمهانة : «وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ» .. آية حياة ، لا يهم أن تكون حياة كريمة ولا حياة مميزة على الإطلاق! حياة فقط! حياة بهذا التنكير والتحقير! حياة ديدان أو حشرات! حياة والسلام! إنها يهود ، في ماضيها وحاضرها ومستقبلها سواء. وما ترفع رأسها إلا حين تغيب المطرقة. فإذا وجدت المطرقة نكست الرؤوس ، وعنت الجباه جبنا وحرصا على الحياة .. أي حياة! «وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ، وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ» ..
يود أحدهم لو يعمر ألف سنة. ذلك أنهم لا يرجون لقاء اللّه ، ولا يحسون أن لهم حياة غير هذه الحياة. وما أقصر الحياة الدنيا وما أضيقها حين تحس النفس الإنسانية أنها لا تتصل بحياة سواها ، ولا تطمع في غير أنفاس وساعات على الأرض معدودة .. إن الإيمان بالحياة الآخرة نعمة. نعمة يفيضها الإيمان على القلب.
نعمة يهبها اللّه للفرد الفاني العاني. المحدود الأجل الواسع الأمل وما يغلق أحد على نفسه هذا المنفذ إلى الخلود ، إلا وحقيقة الحياة في روحه ناقصة أو مطموسة. فالإيمان بالآخرة - فوق أنه إيمان بعدل اللّه المطلق ، وجزائه الأوفى - هو ذاته دلالة على فيض النفس بالحيوية ، وعلى امتلاء بالحياة لا يقف عند حدود الأرض إنما يتجاوزها إلى البقاء الطليق ، الذي لا يعلم إلا اللّه مداه ، وإلى المرتقى السامي الذي يتجه صعدا إلى جوار اللّه."[2]
ـــــــــــــــ
[1] - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 101)
[2] - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 92)